الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
وتكرير النداء للمبالغة في الضراعة والابتهال، وضمير الجماعة كما قال بعض المحققين لأن المراد ليس مجرد علمه تعالى بما يخفى وما يعلن بل بجميع خفايا الملك والملكوت وقد حققه عليه السلام بقوله على وجه الاعتراض: {وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْء في الأرض وَلاَ فِي السماء} لما أن علمه تعالى ذاتي فلا يتفاوت بالنسبة إليه معلوم دون معلوم، وقال أبو حيان: لا يظهر تفاوت بين إضافة رب إلى ياء المتكلم وبين إضافته إلى جمع المتكلم اه. ومما نقلنا يعلم وجه إضافة {رَبّ} هنا إلى ضمير الجمع، ولا أدري ماذا أراد أبو حيان بكلامه هذا، وما يرد عليه أظهر من أن يخفى، وإنما قال عليه السلام: {وَمَا يخفى} إلى آخره دون أن يقول: ويعلم ما في السموات والأرض تحقيقًا لما عناه بقوله: {تَعْلَمُ مَا نُخْفِى} من أن علمه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبة خفاء بالنسبة إلى علمه تعالى كما يكون ذلك بالنسبة إلى علوم المخلوقات.وكلمة {فِى} متعلقة حذوف وقع صفة لشيء أي لشيء كائن فيهما أعم من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما أو على وجه الجزئية منهما، وجوز أن تتعلق بيخفى وهو كما ترى. وتقديم الأرض على السماء مع توسيط {لا} بينهما باعتبار القرب والبعد منا المستعدين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا. والمراد من {السماء} ما يشمل السموات كلها ولو أريد من {الأرض} جهة السفل ومن السماء جهة العلو كما قيل جاز، والالتفات من الخطاب إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم والإيذان بعمومه لأنه ليس بشأن يختص به أو بمن يتعلق به بل شامل لجميع الأشياء فالمناسب ذكره تعالى بعنوان مصحح لمبدئية الكل، وعن الجبائي أن هذا من كلام الله تعالى شأنه وارد بطريق الاعتراض لتصديقه عليه السلام كقوله سبحانه: {وكذلك يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] والأكثرون على الأول. {وَمِنْ} على الوجهين للاستغراق.
والجار والمجرور في موضع الحال، والتقييد بذلك استعظامًا للنعمة وإظهارًا لشكرها، ويصح جعل {عَلَىَّ} عناها الأصلي والاستعلاء مجازي كما في البحر، ومعنى استعلائه على الكبر أنه وصل غايته فكأنه تجاوزه وعلا ظهره كما يقال: على رأس السنة، وفيه من المبالغة ما لا يخفى، وقال بعضهم: لو كانت للاستعلاء لكان الأنسب جعل الكبر مستعليًا عليه كما في قولهم: على دين، وقوله: {وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ} [الشعراء: 14] بل الكبر أولى بالاستعلاء منهما حيث يظهر أثره في الرأس {واشتعل الرأس شَيْبًا} [مريم: 4] نعم يمكن أن تجري على حقيقتها بجعلها متعلقة بالتمكن والاستمرار أي متمكنًا مستمرًا على الكبر، وهو الأنسب لإظهار ما في الهيئة من الآية حيث لم يكن في أول الكبر اه وفيه غفلة عما ذكرنا {إسماعيل وإسحاق} روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه وهب له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة، ووهب له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة، وفي رواية أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين، وإسحاق لسبعين، وعن ابن جبير لم يولد لإبراهيم عليه السلام إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة {إِنَّ رَبّى} ومالك أمري {لَسَمِيعُ الدعاء} أي لمجيبه فالسمع عنى القبول والإجابة مجاز كما في سمع الله تعالى لمن حمده، وقولهم: سمع الملك كلامه إذا اعتد به وقبله، وهو فعيل من أمثلة المبالغة واعمله سيبويه وخالف في ذلك جمهور البصريين، وخالف الكوفيون فيه وفي أعمال سائر أمثلتها، وهو إذا قلنا بجواز عمله مضاف لمفعوله أن أريد به المستقبل، وقيل: إنه غير عامل لأنه قصد به الماضي أو الاستمرار، وجوز الزمخشري أن يكون مضافًا لفاعله المجازي فالأصل سميع دعاؤه بجعل الدعاء نفسه سامعًا، والمراد أن المدعو وهو الله تعالى سامع. وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد لاستلزامه أن يكون من باب الصفة المشبهة وهو متعد ولا يجوز ذلك إلا عند الفارسي حيث لا يكون لبس نحو زيد ظالم العبيد إذا علم أن له عبيدًا ظالمين، وههنا فيه إلباس لظهور أنه من إضافة المثال للمفعول انتهى، وهو كلام متين.والقول بأن اللبس منتف لأن المعنى على الإسناد المجازي كلام واه لأن المجاز خلاف الظاهر فاللبس فيه أشد ومثله القول بأن عدم اللبس إنما يشترط في إضافته إلى فاعله على القطع، وهذا كما قال بعض الأجلة مع كونه من تتمة الحمد والشكر لما فيه من وصفه تعالى بأن قبول الدعاء عادته سبحانه المستمرة تعليل على طريق التذييل للهبة المذكورة؛ وفيه إيذان بتضاعيف النعمة فيها حيث وقعت بعد الدعاء بقوله: {رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين} [الصافات: 100] فاقترنت الهبة بقبول الدعوة، وذكر بعضهم أن موقع قوله: {الحمد للَّهِ} وتذييله موقع الاعتراض بين أدعيته عليه السلام في هذا المكان تأكيدًا للطلب بتذكير ما عهد من الإجابة، يتوسل إليه سبحانه بسابق نعمته تعالى في شأنه كأنه عليه السلام يقول اللهم استجب دعائي في حق ذريتي في هذا المقام فإنك لم تزل سميع الدعاء وقد دعوتك على الكبر أن تهب لي ولدًا فأجبت دعائي وهبت لي إسماعيل وإسحاق ولا يخفى أن إسحاق عليه السلام لم يكن مولودًا عند دعائه عليه السلام السابق فالوجه أن لا يجعل ذلك اعتراضًا بل يحمل على أن الله تعالى حكى جملًا مما قاله إبراهيم عليه السلام في أحايين مختلفة تشترك كلها فيما سيق له الكلام من كونه عليه السلام على الإيمان والعمل الصالح وطلب ذلك لذريته وأن ولده الحقيقي من تبعه على ذلك فترك العناد والكفر، وقد ذكر هذا صاحب الكشف.ومما يعضده ما أخرجه ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله: {الحمد للَّهِ} إلخ: قال. هذا بعد ذلك بحين، ووحد عليه السلام الضمير في {رَبّ} وإن كان عقيب ذكر الولدين لما أن نعمة الهبة فائضة عليه عليه السلام خاصة وهما من النعم لا من المنعم عليهم.
ومثل ذلك العدم والعدم، وقرأ ابن جبير {لِى وَلِوَالِدَىَّ} بإسكان الياء على الإفراد كقوله: {واغفر لأبي} [الشعراء: 86] {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} كافة من ذريته وغيرهم، ومن هنا قال الشعبي فيما رواه عنه ابن أبي حاتم: ما يسرني بنصيبي من دعوة نوح وإبراهيم عليهما السلام للمؤمنين والمؤمنات حمر النعم، وللإيذان باشتراك الكل في الدعاء بالمغفرة جيء بضمير الجماعة {يَوْمَ يَقُومُ الحساب} أي يثبت ويتحقق، واستعمال القيام فيما ذكر إما مجاز مرسل أو استعارة، ومن ذلك قامت الحرب والسوق، وجوز أن يكون قد شبه الحساب برجل قائم على الاستعارة المكنية وأثبت له القيام على التخييل، وأن يكون المراد يقوم أهل الحساب فحذف المضاف أو أسند إلى الحساب ما لأهله مجازًا، وجعل ذلك العلامة الثاني في شرح التلخيص مثل ضربه التأديب مما فيه الإسناد إلى السبب الغائي أي يقوم أهله لأجله، وذكر السالكوتي إنه إنما قال مثله لأن الحساب ليس ما لأجله القيام حقيقة لكنه شبيه به في ترتبه عليه وفيه وبحث.
|